أشاع التصعيد المفاجئ في سوريا حالة من الخوف والترقّب بين سكّان محافظة نينوى ومركزها مدينة الموصل الذين سبق لهم أن عانوا تبعات الأوضاع الأمنية المتفجّرة في البلد المجاور حين اتخّذ تنظيم داعش من محافظتهم بوابة لغزو مناطق شاسعة من العراق وما تبع ذلك من تنكيل بالأهالي وما أحدثه من خسائر هائلة في الأرواح والممتلكات ودمار في البنى التحتية.
وتجد مخاوف السكّان مبررها في كون بعض الأجواء التي سبقت غزو التنظيم المتشدّد ما تزال ماثلة في نينوى من صراعات شرسة على السلطة وتوتّرات طائفية وعرقية أذكاها حضور الميليشيات في المحافظة منذ أن دخلتها للمشاركة في الحرب ضدّ داعش وتحوّلت منذ ذلك الحين إلى شريكة في إدارة شأنها الإداري والأمني وحتّى الاقتصادي.
واستشعرت السلطات الاتحادية والمحلية هواجس السكّان وبادرت إلى طمأنتهم على لسان المحافظ عبدالقادر الدخيل الذي أعلن الاثنين أن رئيس الوزراء محمد شياع السوداني سيقوم بزيارة إلى المحافظة، مشيرا إلى أنّ الحدود مع سوريا مؤمّنة بشكل كامل.
وقال الدخيل لوسائل إعلام محلية إنّ الأمن مستتب وتحت السيطرة الكاملة وإنّ القوات العراقية من جيش وشرطة اتحادية وحرس حدود وحشد شعبي تحكم سيطرتها على الحدود مع الجانب السوري.
كما حرص المحافظ على التأكيد أنّه “لا داعي للمخاوف من أي خروقات وتهديدات أمنية في نينوى”.
وفي يونيو 2014 فوجئ سكّان الموصل المدينة الكبيرة المتعدّدة عرقيا ودينيا وذات العمق التاريخي، بعناصر تنظيم داعش يغزون مدينتهم ويسيطرون عليها بالكثير من السهولة بعد أن عبروا المناطق المؤدية إليها والتي تفصلها عن الحدود مع سوريا في ظل انهيار صادم للقوات العراقية أرجعه خبراء الشؤون الأمنية والعسكرية إلى حالة الضعف الشديد التي طالت تلك القوات في فترة حكم رئيس الوزراء الأسبق نوري المالي، والتي امتدت لثماني سنوات تسرّب خلالها فساد كبير إلى مؤسسات الدولة بما في ذلك مؤسساتها الأمنية التي عانت أيضا تسرّب الاعتبارات الطائفية والحزبية إلى صفوفها عندما أصبحت تلك الاعتبارات متحكمة في اختيار منتسبيها وتعيين قادتها على حساب معيار المهنية والكفاءة الأمر الذي أفقد سكان الكثير من المناطق الثقة في قوات الجيش والشرطة، بل دفع بعض الناقمين منهم إلى التعاون ضدّها مع التنظيمات المتشدّدة.
ولا يريد رئيس الوزراء الحالي تكرار أخطاء المالكي في نينوى ذات الحساسية القومية والدينية والطائفية، وبادر لأجل ذلك إلى برمجة زيارة إلى المحافظة تتضمن رسالة واضحة بأنّهم غير متروكين لمصيرهم مثلما كانت عليه الحال قبل عشر سنوات.
وساهمت وزارة الداخلية من جهتها في تبليغ تلك الرسالة وأعلنت الاثنين أن الحدود العراقية مع سوريا “مؤمّنة ولا يمكن اختراقها”.
جاء ذلك خلال مؤتمر صحفي مشترك عقده متحدث الوزارة مقداد ميري وقائد قوات الحدود محمد السعيدي، وقال ميري خلاله إنّ “حدودنا مع سوريا هي الأفضل أمنيا واختراقها من الجانب السوري غير ممكن كونها محصنة ومؤمنة، وتأمينها ليس وليد اللحظة”.
وأضاف “الحدود مع سوريا مؤمنة بشكل كامل عبر فرقتين من قيادة قوات الحدود، إضافة إلى دعم من الجيش والحشد الشعبي.”
وقبل غزو داعش للموصل وباقي المناطق العراقية لم يكن الحشد موجودا حيث تشكّل أساسا لقتال التنظيم وانضمت إليه العشرات من الميليشيات الشيعية التي استجابت لفتوى أصدرها المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني تحت مسمى “فتوى الجهاد الكفائي”.
وساهم المقاتلون الشيعية المعبّأون طائفيا بفاعلية كبيرة في مواجهة داعش وهزيمته، لكنهم رفضوا بعد ذلك مغادرة المناطق السنيّة التي دخلوها بمناسبة الحرب وتمسّكوا بمواقعهم الإستراتيجية في المحور الرابط بين الموصل والحدود السورية رغبة في تأمين ممر بين العراق وسوريا تستخدمه إيران في تنقل ميليشياتها بين البلدين وفي إمداد تلك الميليشيات بالسلاح الذي يصل جزء منه إلى حزب الله في لبنان.
ويدرك أهالي نينوى أنّ حضور الميليشيات في محافظتهم يجعلها في قلب التوتّرات وعرضة لتهديد دائم بتفجّر صراعات دامية كتلك التي أعقبت سنة 2014.
وقال السعيدي من جهته إن “الحدود مزودة بكاميرات حرارية ذكية تعمل على مدار 24 ساعة لرصد أيّ تحركات،” وتابع قوله “لا خشية على حدودنا مع سوريا، وهي الآن ليست كما كانت عام 2014”.
وأوضح السعيدي أن طول الحدود العراقية السورية يبلغ أكثر من 600 كيلومتر، مضيفا “ما حققناه في ضبط الحدود من خلال عدة إجراءات أبرزها الخنادق والسواتر والجدار الكونكريتي (الإسمنتي) لم يتحقق على مدى تاريخ الدولة العراقية”.
وأشار إلى أن “كل نقطة من النقاط الموجودة في الحدود تبعد عن الأخرى بواقع كيلومتر واحد، إضافة إلى وجود كاميرات مراقبة ترصد وتوثق جزءا من الحدود العراقية – السورية” كاشفا أيضا عن “وجود منظومة من الطائرات المسيرة والنواظير الحرارية”.
وتأتي هذه التصريحات بعد التفجّر المفاجئ للأوضاع في سوريا والذي قطع هدوءا نسبيا تواصل لسنوات بعد أن شنّت فصائل مسلحة مدعومة من تركيا وقطر هجمات على محافظة حلب واستكملت السيطرة على محافظة إدلب.
وما تزال نينوى تشهد وضعا سياسيا وإداريا هشا بسبب عدم استقرار حكومتها المحلية المنبثقة عن انتخابات مجالس المحافظات التي جرت في العراق قبل نحو عام.
وفجّرت قوى تابعة للإطار التنسيقي الحاكم في العراق وأخرى متحالفة معها مؤخرا صراعا جديدا على المناصب الإدارية في نينوى، عندما استخدمت كتلتها في مجلس المحافظة لإدخال تغييرات على الوحدات الإدارية للأقضية والنواحي بإقالة كبار المسؤولين فيها والمنتمين لقوى سياسية بعينها وتعيين آخرين من قوى حليفة.
ومثّل ذلك استئنافا للصراع الدائر في نينوى منذ استعادة الموصل من تنظيم داعش والمنصبّ على بسط السيطرة الأمنية والسياسية والتحكّم في الحركة التجارية والاقتصادية في المحافظة والاستئثار بمشاريع إعادة الإعمار النشطة والمدرّة للأرباح والمكاسب المالية المجزية، حيث أتاحت الحرب ضدّ داعش للميليشيات الشيعية المنضوية ضمن الحشد الشعبي دخول نينوى والتمسّك بالبقاء فيها وتوسيع نشاطها ليتجاوز الجانب الأمني إلى المجال التجاري والاستثماري بفتح مكاتب اقتصادية لها هناك.
ومثّل ذلك أرضية للحشد والقوى السياسية الشيعية لتركيز حضور سياسي وإداري فاعل في الموصل، تؤمّنه في الوقت الحالي كتلة نينوى المستقبل التي تمتلك ستة عشر مقعدا في مجلس المحافظة من مجموع تسعة وعشرين مقعدا، الأمر الذي يؤمّن لها الأغلبية اللاّزمة لتمرير قرارات تصبّ في مصلحتها ومن ذلك تغييرها رؤساء الوحدات الإدارية في أقضية سنجار والبعاج والحضر ومخمور وتلعفر وتلكيف والحمدانية، وفي نواحي الشورة وحمام العليل وبعشيقة والتل والنمرود والقراج والقيارة وبرطلة والشمال والعياضية وزمار ووانة.
وجاءت تلك التغييرات على حساب قوى منافسة لقوى الإطار التنسيقي بينما صبّت في المقابل في مصلحة قوى منضوية ضمنه أو حليفة له مثل ائتلاف العقد الوطني الذي يقوده رئيس الحشد الشعبي فالح الفياض وحزب الاتّحاد الوطني الكردستاني بقيادة بافل طالباني وميليشيا بابليون المسيحية بزعامة ريان الكلداني. وباتت الحكومة المحلية لنينوى بسبب تلك الخلافات مهدّدة بالشلل في مرحلة حساسة وخطرة.
وعلّق محافظ نينوى السابق أثيل النجيفي على الوضع في نينوى محذّرا من إشعال صراع عرقي جديد في المحافظة ومن “خطورة انفلات أمني واسع قد يكون أشد مما كان عام 2014.”
وقال في منشور له على منصّة إكس إنّ “هذا الوقت ليس مناسبا لإثارة الأزمات،” مضيفا أنّ “الذين يفرحون لأنهم سحبوا منصبا من الحزب الديمقراطي الكردستاني وأعطوه للاتحاد الوطني الكردستاني أو لشخص مدعوم من حزب العمال الكردستاني، لن يغيروا شيئا سوى أنهم يزجّون بمحافظتهم في أتون صراع إقليمي لا يدركون عواقبه”.