مع اللحظات الأولى لشن طائرات وبوارج أمريكية وبريطانية فجر الجمعة؛ سلسلة غارات وقصف على مواقع لجماعة الحوثي في اليمن، كان لافتاً بروز الصوت في أوساط المعسكر المناهض للجماعة باليمن بتوصيف ما جرى بأنه "مسرحية" والسخرية من الحديث بأنها بداية لمواجهة بين الطرفين.
هذا التوصيف يرجع إلى حجم الغضب والنقمة في صفوف خصوم الحوثيين من التعامل الغربي مع ملف الحرب في اليمن، وكيف ساهمت الدول الغربية وعلى رأسها أمريكا وبريطانيا في إعاقة هزيمة الحوثيين عسكرياً وخاصة في معركة تحرير مدينة وميناء الحديدة أواخر عام 2018م.
تاريخ حافل من التعامل الغربي "اللين" مع الجماعة الحوثية المدعومة من إيران، رسخ قناعة لدى قطاع عريض من خصوم الجماعة في اليمن بأنها أداة غربية أكثر من كونها ذراعا لإيران، بل إن الضربات الأخيرة عززت هذه القناعة بالنظر إلى شواهد عديدة.
من بين هذه الشواهد أنها ضربات سبق الإعلان عنها في وسائل إعلام الغرب، وأنها لم تسفر عن خسائر مادية أو بشرية في صفوف الجماعة الحوثية، وهو ما يجعل فوائدها على الجماعة أكثر من ضررها، وبأنها ستعمل على تلميعها وتقويتها عسكرياً وشعبياً.
وعلى الرغم من صحة جوانب في ما سبق، إلا أن التحليل المنطقي وشواهد التاريخ تؤكد بأن ما يحدد السلوك والمواقف السياسية والتخطيط الاستراتيجي في العقلية الغربية هي المصالح في الأول والأخير، وخاصة لدى دول كبرى مثل: أمريكا ولا علاقة لها بالعواطف، وهي من تحدد قائمة الأعداء والخصوم والأصدقاء والحلفاء.
وأن دولة مثل أمريكا يمكن لها أن تتحالف أو أن توظف دولا أو جماعات أيديولوجيا لصالحها في مرحلة ما حتى وإن كانت تؤمن هذه الدول والجماعات بالعداء لها، وهو ما حصل مع المجاميع الجهادية في أفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي والتي جرى دعمها أمريكيا وبسخاء لخدمة صراع واشنطن حينها ضد الاتحاد السوفيتي.
هذه المجاميع الجهادية التي شكلت لاحقاً نواة للتنظيمات المتطرفة وعلى رأسها القاعدة، كان للولايات المتحدة الأمريكية الفضل الكبير في نشوئها وسيطرتها لاحقاً على حكم أفغانستان لثلاثة عقود دون اكتراث أمريكا بفداحة ذلك على الشعب الأفغاني وتحول بلاده إلى دولة فاشلة لا تجيد سوى تصدير المخدرات.
إلا أن الأمر اختلف رأساً على عقب أواخر القرن الماضي مع تحول أمريكا إلى عدو وهدف لهذه التنظيمات الجهادية وعلى رأسها القاعدة، وبدأها في توجيه ضربات إلى أمريكا كان أعنفها هجوم 11 سبتمبر عام 2001م حين اقتاد انتحاريون من القاعدة 4 طائرات مدنية نحو أهداف داخل أمريكا على رأسها برجي التجارة العالمي بمدينة نيويورك.
هجوم دامٍ أودى بحياة 3 آلاف شخص، مثَّل نقطة تحول بإعلان واشنطن غزو أفغانستان وملاحقة قادة حركة طالبان وتنظيم القاعدة، الذي سبق وأن وجه هجوماً عنيفاً ضد أمريكا في اليمن بتفجير المدمرة كول في عدن أواخر عام 2000م، في هجوم فتح معركة لم تغلق حتى اليوم بين أمريكا والقاعدة حول العالم وخاصة في اليمن التي لا تزال "درونز" واشنطن تلاحق كل قيادات وعناصر القاعدة.
ذات المشهد ربما يتكرر اليوم في اليمن ولكن مع جماعة الحوثي، التي ساهم التجاهل الغربي لها وخاصة من قبل أمريكا منذ أولى مواجهة للجماعة مع الدولة عام 2004م، في نموها وتوسعها.
وعلى الرغم من أنها ترفع في شعارها دعوة صريحة بهلاك أمريكا، إلا أنها ظلت خارج دائرة الاستهداف، طالما ابتعدت عن تهديد واستهداف مصالح أمريكا، وتكرس ذلك خلال سنوات الحرب الأخيرة، في موقف اعتبره خصوم الحوثي بأنه تواطؤ معها وبأن الجماعة باتت أداة من أدوات الغرب وأمريكا.
إلا أن الأمر يبدو بأنه اختلف بعد 20 عاماً، باستهداف الجماعة الحوثية للملاحة الدولية وهو ما يعتبره الغرب وتحديداً أمريكا تهديداً مباشراً لنفوذها كقوى عظمي مُوكل لها حماية وأمن الممرات المائية، كما أنه يهدد بتفجير الوضع بالمنطقة مع الحرب التي تشنها إسرائيل ضد غزة.
لذا سعت الإدارة الأمريكية بقوة السياسة والضغوط إلى وقف هجمات الحوثيين على الملاحة الدولية ومطالبة سلطنة عُمان بنقل ذلك للجماعة، والتأكيد بأن امتناع واشنطن والغرب عن الرد يأتي حرصاً على منع نسف جهود السلام في اليمن التي تقودها مسقط والرياض، إلا أن ذلك قوبل بتعنت حوثي، حيث قرأت الجماعة هذا الموقف بأنه حالة ضعف يسمح لها بالتصعيد ورفع السقف.
لتأتي الحادثة الأخطر والأهم بالهجوم الحوثي على إحدى السفن الحربية الأمريكية الأربعاء، بالبحر الأحمر بـ18 طائرة مُسيرة وصواريخ بالستية وبحرية، في هجوم وصفته واشنطن بأنه "معقد"، ومثَّل رسالة تحد حوثية على تحذيرات واشنطن والدول الغربية بوقف الهجمات.
هذا التحدي والغطاء الذي مثله قرار مجلس الأمن الدولي وإدانته للهجمات، دفع بخيار توجيه ضربات جوية "محدودة" وعلى مواقع عسكرية تابعة للمليشيات وتسريب الخبر قبل ذلك بساعات، في موقف يُفهم بأن الضربات ليست إلا رسالة تحذير وردع لوقف هجمات مليشيات الحوثي على الملاحة الدولية، ولم يكن هدفها إحداث دمار وإلحاق خسائر بشرية كبيرة في صفوف المليشيات.
إلا أن البيانات الصادرة لاحقاً من واشنطن ولندن عقب الضربات، تشير بشكل واضح إلى أن الكرة الآن في ملعب الجماعة الحوثية وهي من ستحدد مسار الموقف خلال الأيام القادمة، فاستمرارها بالهجمات من الآن وصاعداً سيتم ردعها والرد عليها باستهداف مواقع الجماعة بالبر اليمني بحسب حجم ونوعية الهجمات التي قد تشنها الجماعة.
في حين أن حدوث أي رد عنيف من قبل الجماعة الحوثية على أمريكا واستهداف قواعدها أو سفنها المدنية والعسكرية أو مصالحها في المنطقة وسقوط ضحايا نتيجة لذلك، فإن الرد والتعامل سيكون مشابهاً لما حدث مع القاعدة بتدشين مرحلة جديدة من الرد العسكري باستهداف وملاحقة قيادات الجماعة وتصفيتها، وفتح معركة بلا سقوف وربما لن تُغلق سريعاً.