فجأة تحول البحر الأحمر إلى بؤرة اهتمام عالمي بعد الهجمات الحوثية التي استهدفت مرور السفن الذاهبة إلى إسرائيل. لكن السؤال هو من سيحمي البحر الأحمر، هل هي أميركا أم الدول المعنية التي تطل على هذا المنفذ البحري الحيوي، ولماذا لم تشارك هذه الدول في القوة الأمنية التي شكلها الأميركيون؟
نقلت التهديدات التي تمثلها جماعة الحوثي في اليمن للسفن المارة عبر جنوب البحر الأحمر الحالة القلقة التي واجهتها سفن أخرى في الخليج العربي منذ سنوات. بدأت الثانية تصطحب جدلا أمنيا قريبا من الحالة الأولى، من حيث الأطراف الرئيسية الفاعلة والقوى الساعية إلى الهيمنة، وتشابك المصالح الاقتصادية والعسكرية.
جرى حل جزء كبير من التعقيدات الخاصة بالخليج العربي أمنيا وتجاريا عقب فصول مضنية من الشد والجذب، تركت مساحة للمناورات تقوم بها بعض القوى من حين إلى آخر عندما تريد مضايقة جهة معينة أو توصيل رسائل إليها، ما جعل الخليج العربي أحيانا منطقة ملتهبة وتمثل خطرا أمنيا كبيرا على دوله، وتهدد اقتصاديات قوى تعتمد على تصدير واستيراد النفط والغاز، لأن صيغة التفاهمات الضمنية بين الدول المتنافسة والمتصارعة والمتعاونة يمكن أن تهتز في أيّ لحظة.
نقلت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة جزءا من توابعها إلى المدخل الجنوبي للبحر الأحمر بسبب استهداف السفن المتجهة إلى خليج العقبة ومنه إلى إسرائيل، ومع أن تهديدات الحوثي تنطوي على جوانب استعراضية ودعاية سياسية، إلا أن التعامل معها بجدية من قبل الولايات المتحدة وقوى أخرى غالبيتها غربية منحها أهمية كبيرة، وبدأ الحديث عن تحالفات وجيوش وأساطيل في تصاعد، ومن معها ومن يقف ضدها.
غابت الدول المطلة على البحر الأحمر عن المشاركة في القوة الأمنية التي أعلنت الولايات المتحدة تشكيلها تحت شعار “تحالف حارس الازدهار”، وظهر أمن هذا الممر الدولي الحيوي في قبضة دول من خارجه، فالحوثيون ومن خلفهم إيران يمثلون التهديد المباشر للملاحة، والولايات المتحدة وخلفها أساطيل دول عدة في موضع المدافعين عن أمن واستقرار المنطقة، أو بالأحرى أمن إسرائيل.
لم تظهر بصمات عملية للتحالف الذي تقوده واشنطن لجهة التعامل مع تهديدات الحوثي أو تأمين حرية الملاحة لإسرائيل ومنع استهدافها تماما، وبدأ النقاش يتنامى حول الدول الأولى برعاية الأمن في البحر الأحمر من داخله أم خارجه، أم منهما معا، وهو نقاش يذكّر بما جرى في ثمانينات القرن الماضي وتسعيناته بين إيران ودول الخليج، وبينهما الولايات المتحدة التي دخلت كقوة مهيمنة على الخليج العربي، تدخل في مناوشات وصراعات، وتارة تضبط الأمن وأخرى تتركه.
ويضع مراقبو الأمن في البحر لأحمر النتائج التي تمخض عنها الأمن في الخليج العربي نصب أعينهم، من زاوية المآلات التي وصل إليها في ظل خلافات عميقة بين قوى مهتمة به، وانتهت إلى أن كل فريق صاغ منظومته بالطريقة التي تحافظ على قدر كبير من مصالحه الأمنية وتحقق أهدافه الاقتصادية، وبها تباينات جعلت الخليج منطقة صراعات ممتدة، ولم تتمكن قواها الرئيسية من وضع قواعد ثابتة للتفاهم، حيث المعادلة بين إيران والدول المقابلة لها صفرية في بعض الأحيان، وزادت حدتها مع عدم تفريط الولايات المتحدة في تمتين سيطرتها على المنطقة.
قد يكون البحر الأحمر أمام معادلة شبيهة، لأن معظم دوله يصعب عليها التوافق حول رؤية جامعة، وهناك دول من خارج محيطه ولها مصالح متعددة لن تفرط فيها، كما أن بعضا من دوله لها روابط ومصالح مع جهات خارجية تعتقد أن البحر الأحمر يجب أن يكون جزءا من حساباتها الإستراتيجية، بذريعة حرية التجارة العالمية أو تقويض القوى المنافسة الساعية للاقتراب منه، أو بحجة حق السفن المتجهة إلى إسرائيل بالعبور في أمان، فغالبية تجارتها الخارجية تعتمد على هذا الممر.
ثمة احتمال أن يتحول البحر الأحمر إلى منطقة حرب في المستقبل، أو منطقة تتصارع فيها قوى إقليمية ودولية، يمكن أن تفرز حالة قريبة من تلك التي سادت في الخليج العربي الذي لم يصل إلى درجة عالية من الاستقرار ويمكن أن يختل الأمن فيه إذا بادرت أيّ من القوى الفاعلة بتبني مقاربة لا تخدم قوى منافسة، مع ذلك وصل إلى مستوى من الاستقرار عقب سلسلة طويلة من التجاذبات لا تخلو المنطقة منها حتى الآن.
ليس بالضرورة أن يصل البحر الأحمر إلى صيغة شبيهة بتلك التي مر بها الخليج العربي، وقد يواجه هذا الممر ما هو أسوأ إذا لم تتمكن دوله من التوصل إلى رؤية من داخلها تكفل له الهدوء والأمن والاستقرار، لأن عوامل الصراع في البحر الأحمر عديدة ومتداخلة، والدول المطلة عليه من الناحية الأفريقية غالبيتها غير مستقرة، مثل الصومال وجيبوتي وإريتريا والسودان، ناهيك عن اليمن من الناحية المقابلة.
توجد ثلاث دول تجمع بينها اتفاقية سلام، وهي: مصر والأردن وإسرائيل، ولدى السعودية على الضفة الأخرى علاقات جيدة مع كل منهم، وإن كانت لم تعقد اتفاق سلام مع إسرائيل بعد فإنها من أكثر الدول اهتماما بأمن البحر الأحمر من ناحية مشروعها للسلام في اليمن الذي يواجه تحديات صعبة في ظل تهديدات الحوثي للملاحة الدولية، ومن ناحية طموحات مشروعاتها الاقتصادية والتنموية الكبرى في نيوم، والتي لن يكتب لها النجاح ما لم يكن هذا الممر مستقرا.
يعد التوصل إلى تفاهمات أولية للحفاظ على أمن البحر الأحمر بين الدول الأربع، مصر والأردن وإسرائيل والسعودية، ضربا من الخيال في هذه المرحلة، لأن الدول العربية الثلاث لا تريد أن تبدو كحرّاس لمصالح إسرائيل التي لها مع كل دولة شبكة كبيرة من المصالح المعلنة والخفية، وتستطيع كل منها أن تجذب إليها دولة من تلك التي تعاني مشكلات داخلية مزمنة على قاعدة الأمن المشترك والمصالح الاقتصادية المركبة، وكانت هناك مبادرة لأمن البحر الأحمر من دول تجمع بين ضفتيه، لكنها تعثرت بسبب خلافات حول القيادة والأولويات والأهداف المطلوب القيام بها.
دخل أمن البحر الأحمر مرحلة جديدة مع تهديدات جماعة الحوثي وتصريحات إيران بمناصرتها فيما تقوم به في هذه المنطقة، وتزعّم الولايات المتحدة لعملية الدفاع عن حرية الملاحة، ولا يزال هناك جزء غاطس في هذه التعقيدات، يتعلق بروسيا والصين، فهما لن ترضيا عن ترتيبات تقوم بها جهة يمكن أن تؤثر على مصالحهما، فما يجري من تحركات في الوقت الراهن سوف تكون له تداعيات في المستقبل على طموحاتهما في هذه المنطقة التي جذبت إليها منذ فترة عيون قوى إقليمية ودولية عدة.
فجّرت حرب غزة أزمة أمن البحر الأحمر بعد أن حاولت أطراف مختلفة التعامل معها بالطريقة التي تتوافق مع مصالحها على مدار سنوات طويلة من خلال تحاشي الصدامات الكبرى، لكن الآن هناك تحولات تفرض الاستعداد لمواجهة صدامات حقيقية، فقد يكون الحوثيون قذفوا بالقنبلة دون دراية بنتائجها، لأن ثمة من تلقفوها لحسم قضية غائبة أو ظلت منسية لأنها لم تصل إلى مستوى التهديدات المباشرة.
ما لم تبادر الدول الرئيسية المطلة على البحر الأحمر لوضع خطط إستراتيجية للتعاطي مع تطوراته وتحولاته المحتملة، سوف تواجه معاناة قد تكون أشد ضراوة من تلك التي شاهدنا مقاطعها في الخليج العربي