كتب عضو مجلس القيادة الرئاسي، اللواء فرج البحسني مقالا تحدث فيه عن تفاصيل معركة تحرير مدينة المكلا من تنظيم القاعدة، وذلك بالتزامن مع الذكرى السابعة للتحرير. وجاء في المقال الذي أتى تحت عنوان "لكي لا ننسى و لا ينسوا "...
أحداث كبيرة وعظيمة تمرُّ بها الأوطان والشعوب في مختلف أرجاء العالم، تُمجَّدُ وتُخلَّدُ ويتمُّ الاحتفاء بها كل عام، وبالنسبة لحضرموت والجنوب واليمن ودول التحالف العربي والدول العربية كافة والعالم أجمع فإن الرابع والعشرين من إبريل 2016م هو تاريخ يجب ألا يُنسى ويجب أن يُخلَّد ويُمجَّد كل عام، في هذا التاريخ تمَّ الانتصار الواضح والصريح على قوى الشر والإرهاب المتمثل في تنظيم القاعدة الذي تمكن من الاستيلاء على ساحل حضرموت لمدة عام كامل، وبهذا الانتصار تكون حضرموت قد أسهمت في الحرب العالمية على الإرهاب، وما يجب أن يعرفه الجميع، هو أنه كيف سارت الأمور؟ وكيف استولت هذه العناصر الإرهابية في تنظيم القاعدة على المكلا عاصمة محافظة حضرموت وتوسعت إلى المدن الساحلية؟ وكيف قاومها الشعب في حضرموت؟ وكيف خطط لإزاحتها والانتصار عليها في الرابع والعشرين من إبريل 2016 م، هذا ما سنتطرق إليه في مقالنا هذا كي لا ننسى..
فبعد الانقلاب على الشرعية ومؤسساتها واستيلاء الحوثيين على العاصمة صنعاء وتحركهم نحو الجنوب، جرى تعاون وثيق بين أجهزة النظام السابق والانقلابيين الحوثيين وعناصر تنظيم القاعدة، بموجبه قرروا أن تُسلَّم حضرموت لعناصر تنظيم القاعدة، فالبرغم من وجود قوة عسكرية لا يُستهان بها في جميع مدن حضرموت تُقدَّر بعشرة ألوية، منها ألوية مدرعة وألوية مدفعية ودفاع جوي ووحدات طيران، تمكنت مجموعة من العناصر الإرهابية يُقدَّر قوامها بحوالي ستين إلى مائة عنصر من الاستيلاء على عاصمة حضرموت مدينة المكلا في ظرف لحظات، وتمهيدًا لذلك انسحبت القيادة العسكرية والأفراد من حضرموت، تاركين أسلحة ثقيلة ومتوسطة وخفيفة لكي تستولي عليها العناصر الإرهابية لتنظيم القاعدة في مدينة المكلا لتتحرك نحو القصر الجمهوري وتستولي على السجن المركزي وتسهل خروج العناصر الإرهابية كافة التي كانت محتجَزة فيه، ومن ثم الاستيلاء على البنوك ونهبها، والاستيلاء على محاكم القضاء والميناء والمطار، كل ذلك تم في يوم واحد وبسرعة ودون مقاومة، وكالعادة فإن الشعوب الحية ومناضليها ومقاوميها تتحرك، فبدأت المقاومة والإعلان عن الرفض لنظام حكم هذه العناصر في المدن الساحلية لمحافظة حضرموت، واستشهد العديد من المواطنين إزاء ذلك، ولكي تثبت هذه العناصر الإرهابية جبروتها قامت بالتنكيل بالعديد من المواطنين الذين قاوموها وشنقت العديد منهم في الساحات العامة ونكلت بالنساء والشباب وأوقفت التعليم العالي والمتوسط، واستولت على موارد المحافظة خاصة البنوك والموانئ وسخرتها لخدمة عملها الإرهابي، كما قامت بفتح معسكرات تدريب ومراكز قيادة وسيطرة في مختلف مديريات الساحل..
وأمام هذا الوضع الصعب الناشئ كان لابد من التفكير بعد انطلاق عاصفة الحزم التي أطلقها ملك المملكة العربية السعودية الملك سلمان بن عبدالعزيز، كان لا بد من التفكير في القضاء على هذه العناصر الإرهابية وتحرير ساحل حضرموت منها، فعلى مستوى القيادة السياسية كان هناك قلق كبير لدى فخامة الرئيس آنذاك عبد ربه منصور هادي، وعلى مستوى حضرموت كان هناك قلق من قبل القيادة السياسيين العسكريين والمدنيين والقبليين والمجتمع كافة ودول التحالف العربي في كيفية التخلص من هذه العناصر الإرهابية.. فجرى أول لقاء بيني وبين قيادات عسكرية من قيادة التحالف منذ انطلاق عاصفة الحزم نُوقِشت فيه فكرة عملية التحرير، لكن الوضع في جبهة مأرب آنذاك قد أجل هذه الفكرة لعام كامل نظرًا لخطورة الوضع هناك، فقد ركز التحالف وأعطى الأولوية لمواجهة الحوثيين في تلك الجبهة بصورة أساسية.
ثم عاودت اللقاء بتلك القيادات العسكرية من التحالف مرة أخرى في مدينة الرياض، حيث تم الاتفاق على التحرك السريع وإعداد قوة كبيرة تستطيع هزيمة تلك العناصر الإرهابية، فتم نقل مركز عمل هذه القيادة إلى مدينة شرورة وتم فتح معسكرات تدريب بصحراء الربع الخالي في معسكر الخالدية وبعض المعسكرات الأخرى في هذه المنطقة، ولبى الشباب من مختلف مديريات محافظة حضرموت نداء الواجب واندفعوا بقوة للالتحاق بتلك المعسكرات..
كانت الخطة تقتضي بأن يتم تجنيد ما يقارب ثلاث عشرة إلى خمس عشرة ألف مقاتل ويتم تدريبهم في هذه المعسكرات تدريبًا عاليًا ويتم تسليحهم وتوفير الدعم اللوجستي لهم ليشكلوا وحدات عسكرية نظامية، وتم استدعاء -تقريبًا- كل الضباط الحضارم وغير الحضارم من الذين لديهم الاستعداد ويتمتعون بلياقة بدنية وصحية تمكنهم من قيادة تلك القوة، وعندما أصبحت هذه القوة جاهزة -أي بعد مرور حوالي أربعة إلى خمسة أشهر- جرى التفكير بإعدد خطة عملية للتحرير، وعُقدت عدة اجتماعات مع قيادة قوات التحالف وخاصة القادة الإماراتيين للتدقيق في تلك الخطة والاستماع إلى المعنيين كافة حول كيفية تنفيذها، كما أُضيفت إلى الخطة فكرة إشراك قوة من المقاومة داخل المدن والتعاون مع القبائل لدعم هذه القوة أثناء تحركها، وكان لتلك الأفكار تأثير كبير على نجاح تلك العملية..
وعند اقتراب موعد التنفيذ جرى نقل تلك القوة إلى الهضبة (معسكر نحب) قريبًا من شركة بترو مسيلة، هذا الموقع كان بمثابة نقطة الحشد للقوة، ويتذكر -جيدًا- الضباط والأفراد والقادة كم كان ضغط العمل قويًّا في هذا الموقع وخطيرًا، لكن العزيمة والإرادة كانت أقوى، ففي أيام معدودات تم حشد هذه القوة ووصول الأسلحة والآليات والمعدات الأخرى، كما أُضيفت قوة أخرى تُقدَّر بحوالي عشرة آلاف إلى تلك القوة التي تدربت في معسكر الخالدية وغيره..
لقد تم التخطيط لهذه العملية العسكرية من قبل قادة عسكريين من دولة الإمارات العربية المتحدة على مستوى عالٍ من التأهيل والخبرة، وقدرتهم على التضحية في سبيل ان تنجح هذه العملية، لقد أذهلونا باستعدادهم ومعنوياتهم العالية وتطلعهم وثقتهم في نجاح هذه العملية..
ما أريد تسجيله هنا هو أنني وبفعل خدمتي وخبرتي العسكرية، قد تعايشت مع ضباط وقادة عسكريين من دول عربية كثيرة، لكن وللأمانة أسجل تقديري العالي للإمكانات النظرية والعملية التي يتمتع بها القادة العسكريين الإماراتيين..
كانت فكرة خطة عملية التحرير بعد إقرارها تتمثل في مهاجمة العناصر الإرهابية في ساحل حضرموت من ثلاثة محاور، المحور الاوسط وهو أن تنطلق القوة من منطقة الحشد في الهضبة في اتجاه ريدة المعارة للأدواس عبدالله غريب وصولًا إلى مطار الريان، والمحور الشرقي وهو أن تنطلق القوة تجاه المعدي مفرق وادي عرف وصولًا إلى ميناء النفط بالضبة، والمحور الغربي وهو أن تنطلق القوة مرورًا بالطريق القبلية وجول مسحة وصولًا إلى مدينة المكلا والاستيلاء على القصر الجمهوري ..
كنت أفكر في أنه كيف ستتحرك هذه القوة الضخمة في آن واحد - وفي أغلب الأحيان فإن تحركها سيكون ليلًا - دون أن تزلَّ طريقها أو تتقاطع مع بعضها البعض وهو الأمر الذي سيعرقلها ويؤخر وصولها، ففكرت في إجراء عدة تمارين ليلًا قبل ساعة الصفر ببضعة أيام، لكي يعرف كل رتل من هذه القوة طريق خروجه من منطقة الحشد حتى يسلك الطريق الرئيسي المحدد له.
وقد سألني أحد قادة التحالف، لماذا تفعل ذلك؟ وكان جوابي لسببين: أولا لضمان خروج هذه القوة من منطقة الحشد وتوجهها بطريقة صحيحة، وثانيًا لكي تعرف العناصر الإرهابية لتنظيم القاعدة حجم هذه القوة وجبروتها وقوتها مما سيزيد من ضعف وخوف هذه العناصر.
لقد تضمنت خطة التحرير استهداف مراكز القيادة والمعسكرات والتجمعات لعناصر تنظيم القاعدة قبل بدء العملية بعدة أيام بضربات الطيران لقوات التحالف، الأمر الذي أدَّى إلى شل هذه المراكز وتفكيك معسكرات العناصر الإرهابية، كما أنه كان هناك دور كبير لطيران التحالف وخاصة دولة الإمارات العربية المتحدة يوم معركة التحرير في دعم القوة المهاجمة.
لا أخفي عليكم أن كثيرًا من الأشخاص كانوا يشككون في قدرة هذه القوة على هزيمة العناصر الإرهابية، ولكن كانت هناك الإرادة لدى القادة والمقاتلين والإصرار والثقة بالنفس أن النصر سيكون حليفهم، كما جرى عمل معنوي كبير بين صفوف الأفراد أثناء تدريبهم في المعسكرات وتجمعهم في منطقة الحشد استهدف رفع روحهم المعنوية..
في الوقت المحدد بعد أن تقررت ساعة الصفر وفي منتصف ليلة الرابع والعشرين من إبريل بدأ تحرك هذه القوة باتجاه الساحل، وقد كان يقود العملية قادة كبار من دولة الإمارات العربية المتحدة من نقطة عمليات في معسكر نحب، وكنت مع القوة المهاجمة في المحور الأوسط، ومع كل قائد في كل محور وُجدوا قادة ضباط من دول التحالف وضباط سيطرة مع القوة الجوية لدول التحالف، وقد كان أول صدام مع العدو بالنسبة للمحور الأوسط في تمام الساعة الثامنة صباحًا مع عناصر إرهابية تمركزت في معسكر الأدواس، واستمرت المعركة حوالي ساعة وبمساندة ضربات الطيران تمكنت القوة من اجتياز هذا الموقع الحصين والتحرك بسرعة نحو عقبة عبدالله غريب ومدينة العيون..
وبعد اجتياز معسكر الأدواس كان هناك مالم نتوقعه حيث عملت العناصر الإرهابية على تنظيم كمين أمام مدينة العيون، ولضيق الطريق وصعوبة المرور تمكنت العناصر الإرهابية من إلحاق الضرر ببعض الأطقم المتحركة بالخط الأمامي، فتدارسنا الموقف وإذا بأحد القادة الإماراتيين المرافقين لنا يقول (يا أبا سالمين اطلب من ربعك التراجع قليلًا والوقوف على خط دفاعي، لحظات وسأطلب من الطيران أن يضرب هذا الكمين)، بيني وبين نفسي فكرت متى سيأتي هذا الطيران بناء على طلب ومن مسافة بعيدة، كل ذلك سيأخذ وقتًا، ولكن لم يكن بين كلام القائد الإماراتي ولحظة ضرب الطيران لكمين الإرهابيين إلا بضعة دقائق، يبدو أن الطيران كان في الجو، وبمجرد أن أُعطيت له الإشارة وحُدِّد له الهدف ضرب وبقوة ليدمر أطقم الإرهابيين وتهرب البقية، فانطلقت القوة قبيل المغرب نحو مطار الريان، ومع حلول الظلام كانت قد أخذت المطار تحت يدها وهكذا سارت الأمور على مختلف المحاور.. سقط العديد من الشهداء، لكن الانتصار كان صريحًا وسريعًا وقاطعًا، ليعرف العالم عن بعد ذلك..
لا يسعني هنا إلا أن أعبر عن خالص تقديري للقبائل الذين عملوا على حماية أكبر منشأة نفطية في البلد (بترو مسيلة) من عبث المخربين، ومنعوا وصول العناصر الإرهابية إليها، فلم تُمَس هذه المنشأة الاقتصادية بأي أذى ولم تتمكن العناصر الإرهابية من الوصول إليها، كما أسجل تقديري للمقاومة التي تم تنظيم التعاون معها مسبقًا لدورها في إرباك العدو من الداخل، كما أسجل أن الشيخ عمرو بن حبريش وفي لحظة معينة عندما كنا نواجه كمين العناصر الإرهابية أمام مدينة العيون، إذا به يقترب منا ويقول: أي مساعدة في أي اتجاه؟ كما نذكر أن ذلك الانتصار العظيم كان بفضل مئات الشهداء الذين ثبتوا في معركة الشرف والكرامة.
ليسمح لي القارئ أن أقول أن هناك أسرارًا عديدة لهذه العملية ولهذا النجاح لم تُكشف بعد، ولكن مع مرور الأيام والأعوام سوف نتطرق إليها بإذن الله، وأقول أيضًا لأبناء حضرموت ولأبناء الوطن كله، لا تنسوا هذا المأثرة الكبيرة، مجدوها وخلدوها ودرسوها واحكوها للأجيال القادمة.
اللواء الركن/ فرج سالمين البحسني عضو مجلس القيادة الرئاسي