في صباحٍ لم يكن يشبه الصباحات - قبل بضعة أشهر - مشت "مريم" على قدميها الصغيرتين تحملها الحياة… فعادت بين ذراعي والدها محمولة كجسدٍ غدرته الأرض، مضرّجاً بالدماء خافت الحركة ساكن الألم.
كانت زهرة بعمر عام ونصف… بالكاد تعرّفت على ضوء الشمس، بالكاد نطقت حروف الطفولة الأولى، بالكاد تبسّمت للحياة… فما علمت أن التراب الذي تمشي عليه قد يخون وأن تحت خطوات اللعب ينتظرها فخّ الموت.
في حي الزاهر شمال المخا خرجت "مريم" تلعب أمام عتبة بيتها… لم تكن تدري أن الأيادي الغادرة تزرع تحت أقدام الأبرياء ألغاماً، كما يترك الصيادون فخاخهم في دروب الطرائد.
يروي والدها "محمد كشمع" مأساته وصوته ممتلئ بالحسرة:
"كنت داخل البيت… سمعت انفجاراً هزّ كياني فخرجت أركض، فإذا بي أرى صغيرتي مضرجة بالدماء، ساقطة على الأرض، والدم ينزف من وجهها ويديها ورجليها.. صرخت… صرخت حتى ضاقت الأرض بي، حملتها وركضت حافياً لا أرى سوى ظلها في حضني، أبكي وأجري…"
ركض الأب بقلبه المفجوع نحو الخط العام، أوقف باص أوصله إلى مركز "يَختُل" الصحي… لكنه كان مغلقاً.. لم يكن مع الرجل إلا طفلته الغارقة في النزف وعينان تملؤهما الرجاء.
من هناك نُقلت إلى مركز "أطباء بلا حدود" حيث غسلوا جراحها ثم أُحيلت إلى "مستشفى الثورة" في تعز.. وهناك بدأ جرح أكبر من الدم يتمزق… أخبره الأطباء أن تكاليف العلاج تتجاوز 400 ألف ريال وأن يد "مريم" مهددة بالبتر.
هرباً من هذا المصير الموجع حملها الأب إلى "مستشفى الصفوة" وبمساعدة منظمة "رعاية الأطفال" أُجريت العملية الأولى، فأنقذوا يدها وعالجوا رجلها وضمدوا عينها التي اخترقتها شظية.
لكن الألم لم يغادر بعد.
احتاجت "مريم" إلى عملية ثانية، فتوقّف الدعم فجأة.. قالوا: "ما معنا ميزانية أكثر".. اقترض الأب ما استطاع، قال: "بنتي أغلى من الدنيا كلها".
لكن القرض لم يغطِ كامل التكاليف.
عادت "مريم" إلى المخا وجسدها ما يزال يئنّ، بحاجة للعلاج والرعاية؛
يقول والدها بصوت ممزوج بالقهر والانكسار:
رجعنا البيت والبنت تحتاج علاج… لا مستشفى سأل، لا منظمة، لا أحد حتى سمع صوتي…
اليوم "مريم" ما تزال على قيد الحياة… لكنها تنزف من تحت الضماد، من داخل الألم، من صمت العالم.
تحتاج جلسات علاج ومتابعة، تحتاج رعاية تليق بطفولتها المنهوبة.
وكل ما يملكه والدها… صورة لطفلته بوجهها المجروح وابتسامة تختبئ خلف شاش أبيض.
بصوت الرجاء يناشد الأب العميد طارق صالح قائلاً:
"أنا واثق أن القائد الإنسان لو سمع ندائي، لكان سبقني إلى المستحيل من أجل ابنتي… لكني ما استطعت أن أوصل صوتي إليه حينها، فها أنا اليوم أناشده باسمي واسم مريم، أن ينظر بعين الرحمة إلى طفلة خذلتها الأرض".
كما يدعو المجتمع المحلي والدولي إلى محاسبة المليشيا الحوثية التي جعلت من الأرض حقلاً للموت وزرعت في دروب الحياة قبوراً مؤجلة.
مريم ليست أول ضحايا الألغام الحوثية… لكنها اليوم تحمل عنهم الصوت.
صوت الطفولة حين تنكسر
صوت اللعب حين يُفخّخ
صوت الآباء الذين لا يملكون إلا دموعهم
وصوت أمّة تنزف أطفالها بصمت